مسار الأزمة
وسيم الدهان - لم تكن أزمة ديون دبي آخر مشاهد المعاناة الاقتصادية التي
رآها العالم، بل تبعتها أزمة ديون أخطر في اليونان يرى كثيرون أنها ستقرر
شكل الاتحاد الأوروبي (اقتصادياً وسياسياً) للمرحلة اللاحقة للأزمة على
أضعف تقدير، وصحيح أن أداء الاقتصاد اليوناني كان خارج السياق العالمي
وحتى الأوروبي قبل انكشاف ديونه الكبيرة قبل أن يصل هذا البلد إلى درجة
العجز المالي، إلا أنه بحلول تشرين الثاني 2009 بدأت الأرقام الحقيقية
لمؤشرات الاقتصاد اليوناني بالظهور كاشفةً أن نسبة عجز الموازنة إلى
الناتج المحلي بلغت 12.9% وأن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي قد وصلت
إلى 115%.
وتقول التقارير إن معظم ديون اليونان التي قاربت 300 مليار يورو هي دين
عام واجب دفعه لدائنين غير يونانيين، فـ95.5% منها يعود إلى الدول
والمصارف الأوروبية والأجنبية، ورغم خطة التقشف التي تريد الحكومة اتباعها
هناك لتخفيض نسبة العجز إلى 8.7% مع نهاية 2010، سيبقى على الحكومة
اليونانية حسبما يرى مراقبون واجب خلق 6 مليارات يورو شهرياً واستدانة 53
مليار يورو غيرها للخروج من الأزمة قبل نهاية الصيف القادم، ويجب عليها
بالتوازي مع ذلك أن تتجنب الانفجار الاجتماعي والتظاهرات التي أصبحت شبه
يومية.
ويرى محللون أن على أوروبا مد يد العون «الإقراضية» لليونان، وأنه في حال
غابت المساعدة الأوروبية للبلد المأزومة فإن إفلاسها شبه مؤكد، وخاصةً إذا
ما استمرت الإيرادات الضريبية اليونانية بالمراوحة في مكانها بفعل حركة
النموّ الاقتصادي الضعيفة هناك، وطبعاً، هناك من يرى أن أزمة الديون ستصل
بعد اليونان إلى البرتغال وإسبانيا وايرلندا وإيطاليا، وربما تطول تداعيات
ذلك فرنسا وبريطانيا واليابان وصولاً إلى الولايات المتحدة!.
علاقتها باليورو
عبّر بعض الساسة في اليونان وفي بعض الدول الأوروبية عن اعتقادهم بأن أزمة
اليونان هي أزمة أوروبية، أو على الأقل أزمة تعني دول منطقة اليورو التي
تعرضت وحدتها النقدية (اليورو) لأكبر هزة منذ سنوات بسبب الأزمة
اليونانية، فبعدما وصل مقابل الدولار الأميركي إلى 1.51 في تشرين الثاني
2009 هبط إلى 1.33 دولار مع نهاية شهر آذار 2010، ووصل إلى أدنى مستوى له
عند 1.23 دولار بداية أيار الماضي، ويتخوف بعض السياسيين من أن أزمة
اليونان ستلحق الضرر بمنطقة اليورو وبمكانة عملتها كعملة عالمية مقابل
العملات العالمية الأخرى، إلا أن للباحث الاقتصادي د. قدري جميل رأياً آخر
في هذا الصدد، إذ يرى أن مستقبل اليورو له علاقة بالاتحاد الأوروبي نفسه،
ولا يمكن تناول صعوده وهبوطه مقابل الدولار كعنصر وحيد للجزم في مستقبله
كعملة عالمية، فقد بدأ اليورو مشواره مقابل الدولار بـ0.8، وتجاوز في فترة
لاحقة 1.5 دولار، وهو الآن بحدود 1.2، وعملياً يمكن القول إن التكافؤ بين
اليورو والدولار يتمحور حول هذا الرقم بالذات أو تحديداً عند 1 يورو يساوي
1.24 دولار أميركي، وهذا يعني أن اليورو ما زال في الحدود الطبيعية مقابل
الدولار وأن العرض والطلب ما يزالان هما الحكم بينهما، فمن الممكن أن
ينخفض اليورو ليساوي الدولار في لحظة ما، وللحقيقة- حسب قول د. جميل- فإن
التناسبات بين الاقتصادين الأميركي والأوروبي من حيث حصة كليهما من الناتج
المحلي العالمي تتطلب أن يساوي اليورو الواحد 1.5 دولار أميركي، ولكن بما
أن حرارة الأزمة مرتفعة حالياً (وتحديداً في أوروبا) فقد هبط اليورو بهذا
الشكل مؤخراً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن اليورو إنما يهبط مقابل الدولار
إلا أن هذا لا يعني أن الدولار لا يهبط بدوره، فقياساً للذهب كمعيار
للدولار نجد أن الدولار هبط منذ عامين بنحو النصف على الأقل، وإذا ارتفعت
أسعار النفط في الفترة القادمة فسيتحسن وضع العملتين؛ اليورو والدولار على
حد سواء، مع المحافظة على التوازن بينهما لفترة طويلة قادمة.
وفي سياق الحديث عن اليورو أوضح د. جميل أن الأزمة الحالية قد تدفع الدول
الأوروبية التي لم تعتمد اليورو كعملة رئيسية لها بعد إلى التساؤل عن جدوى
تبنيه (يتكون الاتحاد من 27 دولة منها 16 دولة في منطقة اليورو)، وهذا
طبعاً ليس في مصلحة الاتحاد الأوروبي ككيان سياسي واقتصادي يعتمد على
توحيد عملته ليستطيع من خلالها منافسة العملات الأخرى، وخاصة الدولار، وهو
ما قد يدفع العديد من الدول الأخرى للتخلي عن اليورو كعملة احتياطية
وإعادة التركيز على الدولار، الأمر الذي يدعم أكثر المركزية النقدية
للدولار في النظام المالي والاقتصادي العالمي.
أسس الاتحاد الأوروبي
رأى د. جميل أن استمرار الأزمة في الاتحاد الأوروبي دون إيجاد حلول لها هو
أمر وارد ما دام أصل المشكلة مستمراً، وهو حسب قوله يكمن في نمط توزيع
الثروة الذي يعوق إيجاد الحل والذي قد يؤدي لاحقاً إلى انفجار اجتماعي في
البلدان الأوروبية الأضعف اقتصادياً، وهذا ما يجبر الأوروبيين الكبار على
التفكير بالتخلص من هذه البلدان الضعيفة قبل امتداد الفوضى إليهم، ولذلك
فإن سعي الاتحاد الأوروبي للحفاظ على حدود قوته الدنيا (وهي عملته الموحدة
اليورو، ودوله الأساسية اقتصادياً)، قد يضطره إلى إعادة النظر في بنيته
الأساسية كمجموعة دول، وهذا يهدد أسس الاتحاد الأوروبي من أصلها ولا يضمن
في الوقت نفسه للبلدان الأوروبية القوية التخلص النهائي من شبح الأزمة
التي لابد أن تطولهم إن عاجلاً أم آجلاً، فالاتحاد الأوروبي ذاهب إلى
مرحلة غريبة جداً إلا أنه لن يغيب عن الساحة الدولية، فبقاء ألمانيا
وفرنسا مع اليورو سيبقي على الاتحاد الأوروبي «شكلياً» مع تغيير بسيط،
وأوروبا لها وزن اقتصادي شديد الأهمية عالمياً، ولا يمكن تهميشها أو
تغييبها عن الساحة الدولية.
المسألة إذا لم تعد تتعلق باليونان وحدها، بل هناك توقعات بأن دولاً
أوروبية أخرى تعاني مشاكل اليونان نفسها، هي في طريقها للوصول إلى ما وصلت
إليه اليونان، ومن هذه الدول إسبانيا والبرتغال وايرلندا وايطاليا،
وبالتالي هناك فعلاً أزمة اقتصادية حقيقية تعانيها أوروبا والعالم ينتظر
منها مبادرات فاعلة لمواجهة هذه الأزمة قبل أن تمتد آثارها إلى دول
أوروبية أخرى ويتأثر بتداعياتها الاقتصاد العالمي كله، ولكن هل أوروبا
قادرة على ذلك؟!.
قدرة أوروبا على المساعدة
أوروبا مأزومة فعلاً، وقد كانت تداعيات الأزمة المالية التي بدأت في وول
ستريت عليها كبيرةً إلى حد بعيد، ولتوضيح سياق الأزمة الأوروبية الحالية
والناتجة بطبيعة الحال عن تداعيات الأزمة المالية العالمية بيّن د. جميل
أن الاقتصاد الأوروبي- وهو ثاني أكبر اقتصاد عالمي- تأثر بشكل كبير
بالأزمة المالية العالمية، وخاصةً حيث انخفض معدل النمو الاقتصادي فيه إلى
قرابة 1% فقط، وانعكس هذا التراجع في معدل النمو على معدل البطالة في
منطقة اليورو، فارتفع من 7.3% في كانون الثاني 2008 ليصل إلى 10% في أيلول
2009، وهو ما يعادل 23 مليون عاطل عن العمل، ما جعل حجم الصادرات في منطقة
اليورو تنخفض من 124.404 مليون يورو في كانون الثاني 2008، حتى وصل إلى
89.7 مليون يورو في آب 2009، كما هبط مؤشر DJ EURO 50 المعبّر عن أكبر 50
شركة في منطقة اليورو من 3578 في كانون الثاني 2008 ليصل إلى 1810 في آذار
2009، وكان معدل النمو الاقتصادي الألماني وهو أكبر اقتصاد أوروبي قد
تراجع إلى 0% خلال الربع الأخير من عام 2009 (حالة توقف نمو). لكن الحكومة
الألمانية توقعت أن يحقق الاقتصاد نموا يصل إلى 1.4% في أحسن تقدير خلال
2010، إلا أن المشهد الأوروبي عموماً تغير مع بداية الشهر الثاني من العام
الحالي حيث أظهرت الأرقام أن الانتعاش في ألمانيا قد توقف، وأن الاقتصاد
الإيطالي عاد إلى الانكماش، كما تعمق الركود في اليونان، على حين تعاني
اقتصادات أوروبية أخرى بشكل متفاوت من مشكلات مختلفة.
وتشير توقعات اتحاد (كريديت ريفورم) للمعلومات الاقتصادية في فرانكفورت
إلى أن عدداً كبيراً من الشركات سيواجه أوضاعاً صعبة في عام 2010،
واستناداً إلى معلومات كريديت ريفورم ارتفع عدد الشركات المفلسة خلال عام
2009 بمقدار 16 بالمئة، ليبلغ 34300 شركة، وأظهرت الأرقام الجديدة التي
نشرتها وكالة الإحصاء الأوروبية مؤخراً أن النمو الاقتصادي في 16 دولة
أوروبية قد تباطأ إلى نسبة هزيلة بلغت 0.1% في الربع الأخير من عام 2009.
كما أظهرت أن عدداً من أعضاء منطقة اليورو ولاسيما إسبانيا والبرتغال
وإيرلندا يقع تحت عبء ديون كبيرة، وتتقاذفها كلها مخاوف من وضع اليونان
الذي يشهد عجزاً مقداره 12.7% في الموازنة في عام 2009 وديونا بلغت 113%
من الناتج المحلي الإجمالي (يقدر بنحو 350 مليار دولار)، متجاوزة الـ400
مليار دولار، وهذه المعدلات حسبما أكد د. جميل تتجاوز الحد الأعلى
المستهدف في البلدان التي تستخدم اليورو كعملة، فوفقاً لاتفاقية ماسترخت
(أو الوحدة الأوروبية المالية) التي وقعت عام 1994 فقد تحدد ألا يكون عجز
الموازنة على الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 3%، وألاّ يتعدى حجم الدين
على الناتج أكثر من 60%.
ووفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي لعام 2010 فهي تشير إلى أن معدل نمو
الناتج الحقيقي لمنطقة اليورو كلها لن يزيد على 1.1% عام 2010، ولن يتجاوز
حاجز الـ1.6% عام 2011، ويتوقع الصندوق أن يصل هذا المعدل في ألمانيا إلى
1.5% و1.9% على التوالي خلال الفترة ذاتها، وفي فرنسا إلى 1.4% و1.7%، وفي
إيطاليا إلى 1% و1.3%، على حين سيكون سالباً بإسبانيا بنسبة 0.6% ليرتفع
عام 2011 إلى 0.9% فقط.
وهذا أدى حسبما أوضح د. جميل إلى انخفاض مستويات الثقة بمنطقة اليورو خلال
شهر شباط بأسوأ من التوقعات، بعد شبه توقف للناتج المحلي الإجمالي عن
النمو خلال الربع الأخير من عام 2009 متأثراً بارتفاع معدلات البطالة التي
قلصت مستويات الإنفاق الشخصي للأفراد، وخاصة بعد أن سيطر شبح أزمة
المديونية في اليونان على مصير منطقة اليورو.
خياران لا ثالث لهما
وفي اليونان أوضح د. جميل أن الاقتصاد اليوناني يقوم على ثلاث دعامات
أساسية هي: قطاع الخدمات الذي يساهم بنحو 75.5% من الناتج المحلي الإجمالي
ويستوعب 68% من قوة العمل، وقطاع الصناعة الذي يساهم بنحو 20.6% من الناتج
المحلي الإجمالي ويستوعب نحو 20% من قوة العمل، وقطاع الزراعة الذي يساهم
بنحو 3.7 من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي ويستوعب 12% من قوة العمل.
ورأى د. جميل أن أزمة اليونان المالية تعدّ اختباراً حقيقياً للاتحاد
الأوروبي كوحدة اقتصادية ونقدية، وتضعه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن
يهب الاتحاد الأوروبي وينقذ اليونان من أزمتها المالية، ويحافظ على تماسك
الاتحاد الاقتصادي والسياسي، ويمنع بالوقت نفسه انتقال الأزمة إلى باقي
الدول، المهددة كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا (وهذا صعب جداً دون تأثر
المركز الذي هو ألمانيا بشدة)، وإما أن يتخلى عن تقديم المساعدات المالية
اللازمة لليونان وباقي الدول الأمر الذي قد يؤدي إلى تخلي اليونان عن
العملة الأوروبية وانفصالها عن الاتحاد الأوروبي والتوجه إلى صندوق النقد
الدولي لحل مشكلاتها، وهو ما يشكل ضربة قوية للاتحاد الأوروبي اقتصادياً
وسياسياً، ويفاقم من التوترات الاجتماعية والسياسية داخل القارة، ويفرغ
مضمون الوحدة الأوروبية من محتواه، ويخلخل فكرة الاتحاد وخاصة في ظل عدم
اتخاذ ألمانيا وفرنسا أي موقف اقتصادي إنقاذي واضح تجاه ما يحصل في
اليونان، بل اكتفاؤهما باتخاذ وضعية المراقب والدارس للحالة أكثر من وضعية
المتدخل.
وفي ظل غياب الموقف الأوروبي القادر على التدخل بقوة لمعالجة الأزمة،
اتخذت الحكومة اليونانية مجموعة واسعة من التدابير التقشفية التي تتماشى
مع وصفات صندوق النقد الدولي في مثل هذه الحالات، فقد قامت بزيادة الضريبة
على القيمة المضافة، وزيادة الرسوم على البنزين والمازوت، وفرضت ضرائب
جديدة على العديد من السلع، وقامت بتجميد معاشات الموظفين المتقاعدين
والعاملين في القطاع الخاص، وخفضت راتب الشهر الثالث عشر إلى 30%، ومددت
سن التقاعد إلى 63 عاماً لمدة سنتين، وكله بهدف تقليص عجز الموازنة بسرعة
كبيرة إلى 8.7% نهاية العام الجاري، لكن سيكون لهذه الإجراءات الليبرالية
حسبما أكد د. جميل آثار اجتماعية سلبية ستنعكس مباشرة على مستويات المعيشة
والرفاه الاجتماعي والفقر في اليونان، وهذا ما أدى إلى استعار مظاهر
الاحتجاج الاجتماعي التي بدأت بالظهور بشكل واضح في الشوارع كرد فعل على
الأوضاع الاقتصادية المتردية.
وبطبيعة الحال يوضح د. جميل أن توفير الأموال اللازمة لمساعدة اليونان لدى
الاتحاد الأوروبي يعد بحد ذاته مشكلة بسبب تراجع أداء الاقتصاد الأوروبي
بشكل عام بسبب الأزمة المالية العالمية التي عانت منها جميع دول الاتحاد
بلا استثناء، فالنمو الاقتصادي فيها بحدوده الدنيا، والبطالة تتزايد،
والاقتصاد في حالة انكماش، وبالتالي ستشكل تلك الأموال عبئاً إضافياً على
موازنات الدول الأوروبية، وهذا ما قد يحول مساعدة اليونان وباقي الدول
الأخرى من مساعدة يقدمها الاتحاد الأوروبي كوحدة اقتصادية واحدة، إلى
مساعدة تقدمها دول ضمن الاتحاد بوصفها دولا مستقلة، وهنا يوجد فرق بين
هذين الخيارين إذ يعبر كل منها عن محتوى علاقة اليونان بالاتحاد الأوروبي
وشدة هذه العلاقة، فالخيار الأول يعبر عن الرغبة الجماعية في المساعدة،
على حين يعبر الخيار الثاني عن رغبة ثنائية بين اقتصادين، أي عن علاقات
ثنائية، مع العلم أن أكثر من 100 مليار يورو من الديون المستحقة على
اليونان تعود لألمانيا وفرنسا، وبالتالي فإن إفلاس اليونان يعني ضربة قوية
للبلدين، وعدم قدرتها على سداد تلك الديون أو تأجيلها سيؤثر سلباً في كل
المجموعة الأوروبية.
سورية وأوروبا
وصولاً إلى العلاقات التجارية السورية الأوروبية، رأى د. جميل أنها لابد
تأثرت وإن كانت الأرقام لم تظهر بعد، والتأثر كان سلبياً على سورية التي
تطورت قيمة وارداتها من الاتحاد الأوروبي من 200 مليار ليرة لعام 2007 إلى
245 مليار لعام 2008 (بمعدل نمو مقداره 23%)، على حين تطورت قيمة صادراتها
إلى دول الاتحاد الأوروبي من 231 مليار ليرة إلى 238 مليار ليرة للفترة
ذاتها (أي بمعدل نمو 3%)، فهذا الفارق الكمي آخذ بالازدياد المطرد حتماً
وسيكون الموقف التجاري السوري أضعف من قبل، فالسوريون مضطرون للاستمرار في
الاستيراد من أوروبا التي ستشهد أسعار سلعها المنتجة ارتفاعات متتالية،
وهذا سيؤثر سلباً في الميزان التجاري السوري الأوروبي لمصلحة أوروبا،
وخاصةً أن قدرة سورية على التصدير إلى السوق الأوروبية انخفضت مع انخفاض
قدرة الأوروبيين الشرائية، وبالتالي يجب على سورية تحديد أماكن توظيف رؤوس
الأموال لديها بحيث تستطيع حماية نفسها من تراجع نمو قطاعات الإنتاج
الحقيقي وتضمن استدامة استقرارها الاقتصادي.
وفيما يخص الشراكة الأوروبية رأى د. جميل أن كل الوعود الأوروبية (لسورية
ولغيرها) ألغيت بسبب الأزمة القاسية التي تعانيها أوروبا اليوم،
فالموازنات الأوروبية انخفضت وكذلك الإنفاق المركزي والطرفي، ولذلك فإن
العلاقات الثنائية بين الأوروبيين وغيرهم، وكل العلاقات مع الاتحاد
الأوروبي ككيان، سوف تتجمد في المدى المنظور بشكل كامل، وهذا يعني بشكل أو
بآخر أن الشراكة التي لن تفيد سورية أبداً اليوم أصبحت بعيدةً عن الواقع
ولا تحقق ما يفترض أن تحققه من مصالح (مشتركة أو لطرف واحد).
ولاحظ د. جميل أن الوضع التركي مثلاً كان أفضل من الوضع اليوناني لأن
تركيا لم تنخرط في اتفاق شراكة مع الأوروبيين وبهذا فقد نجت من الوقوف في
فخ التأثير المباشر للأزمة لكونها لم ترتبط بشكل مباشر مع اقتصادات
المراكز المأزومة ولأنها ليست جزءاً من البنية الأساسية كما هو حال
اليونان، وهذا طبعاً لا يعني أن تركيا نجت من الأزمة بشكل مطلق، وإنما كان
تأثير الأزمة فيها أقل من تأثيره بالبلدان المتصلة مباشرة مع المراكز
الأساسية المأزومة، وإذا أخذنا هذا المثال- حسب قول د. جميل- سنخرج
باستنتاج وحيد؛ «الحمد لله لم ندخل في الشراكة، رغم تنفيذنا لمعظم
شروطها»، فموضوعياً بات من الصعب جداً أن تسير الشراكة بالطريق المخططة
لها، وفي الوقت نفسه أبدى د. جميل استغرابه من سبب سير الحكومة بتطبيق
متطلبات الشراكة الأوروبية رغم هذا الوضع.
وعلى هامش الحوار رأى د. جميل أن الأزمة المالية العالمية الراهنة أعادت
قضية تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية إلى الواجهة، حيث الدولة هي
المؤسسة المعنية بسلامة وصيانة وحماية الاقتصاد من الآثار السلبية
المتنوعة التي يتعرض لها، وقد أحدثت الأزمة المالية العالمية آثاراً سلبية
متنوعة على مختلف البلدان حسب مستوى تطورها تمثلت في: زيادات في البطالة
والفقر والجوع، وانخفاض النمو وانكماش اقتصادي، ونتائج سلبية على موازين
التجارة والمدفوعات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأسعار الصرف، وسببت
عجوزات متنامية في الميزانيات الحكومية بسبب تناقص الإيرادات الضريبية
والانكماش الكبير في التجارة الدولية، كما ساهمت في تزايد تقلبات وانخفاض
أسعار السلع الأولية، ونقص التحويلات إلى البلدان النامية، وخفضت كثيراً
من إيرادات السياحة، وسببت تدفقاً معاكساً كبيراً لرأس المال الخاص، وخفضت
من الوصول إلى الائتمان وتمويل التجارة، وأدت إلى انخفاض ثقة الجمهور في
المؤسسات المالية، وعانت من قدرتها على المحافظة على شبكات الأمان
الاجتماعي وتقديم خدمات اجتماعية أخرى مثل التعليم، والصحة، أي إن الأزمة
باختصار شديد انتقلت بقوة من المجال الاقتصادي إلى المجال الاجتماعي.
القادم أسوأ!
الوقائع الحالية في أوروبا تشير إلى أن القادم أسوأ، فالمنتظرون على لائحة
«محتاجي المساعدة» يتكاثرون، والأزمة اليونانية في مواجهة الأزمة
الاقتصادية هي أول تمظهرٍ لفشل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، قد نتجت
ببساطة عن عجز البلدان الأوروبية في الحصول على قروضٍ من المصرف المركزي
الأوروبي، ولذلك تحتم عليها الاقتراض من الأسواق المالية بأسعار فائدة
باهظة، كما أن هذه الأزمة تتأتى حسب محللين غربيين من غياب سياسة أوروبية
تعاونية وضريبية واجتماعية، تسمح للاتحاد بضمان دين دولة عضو، وبوضع خطة
نهوض حكومية حقيقية (بدءاً بأكثر البلدان ضعفاً)، وهذا ما يجعل الشروط
الاجتماعية والضريبية متناغمة في ما بينها، وبتضافر النماذج الاقتصادية
الوطنية تدريجياً.
رغم أن المحللين الأوروبيين أنفسهم يرون أن هذا هو الحلّ الوحيد للخروج من
مأزق منطقة اليورو ولتقليص عدم التوازن بين بلدان مثل ألمانيا، ذات الطلب
الداخلي الضعيف والفوائض الهائلة في الصادرات، وبين اليونان وما يدعى
بالتلاميذ الكسالى في منطقة اليورو (البرتغال وإيطاليا وإسبانيا)، ذات
الاستهلاك الداخلي القوي القادر على امتصاص تلك الفوائض كلها.
غداً سيتوجب على إسبانيا ثم البرتغال وإيرلندا وربما فرنسا، أن تجد نفسها
في وضع اليونان، لكنّ الخاسرين لن يكونوا اليونانيين أو الإيرلنديين وحدهم
وإنما سيكون مجمل المواطنين الأوروبيين خاسراً، وكذلك سيكون الاتحاد
الأوروبي الذي أدخل صندوق النقد الدولي إلى ساحته وأخضع بذلك اقتصاده
لمؤسسة تسيطر عليها الولايات المتحدة والصناعة المالية العالمية. أما
الرابحون فهم من جانب أصحاب الصناعة المالية المسؤولة عن الأزمة
الاقتصادية، ثمّ دافعو الضرائب الذين ينقذونها، وفي الواقع بينت الأزمة
الحالية التي تعيشها أوروبا مدى الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها النظام
المالي الأوروبي من خلال السوق العالمية، وبينت الخلاف بين مجموعة دول
اليورو وبقية دول الاتحاد الأوروبي وحتى داخل دول منطقة اليورو نفسها.
فالاتحاد الأوروبي الذي سعى منذ اعتماد اليورو (2000) إلى حماية اقتصاده
من التضخم والمنافسة خاصة مع تنامي وجود سلع بأسعار منخفضة تغزو أسواق
العالم، وجد نفسه فجأة وسط زوبعة من المضاربات المالية الدولية ذات الأثر
السلبي الكبير على سوق العمل والإنتاج.
الاقتصادية<نقلا عن جريده قاسيون>